ممتطيًا ظهر لغة سهلة متدفقة يأخذك بول أوستر Paul Auster لاستعراض سيرته الذاتية. صَدَرَ كتابه؛ اختراع العزلة، بعبارة للفيلسوف اليوناني هيراقليطس (540 ق.م. – 480 ق.م.) يقول فيها، (خلال بحثك عن الحقيقة كن على أهبة الاستعداد لغير المتوقع، فَدَرب الحقيقة شاق، ومُلَغَزَةٌ هى حين العثور عليها). لم يأت اختيار أوستر لهذه العبارة من فراغ. من الجملة الأولي لسرده يجد القارئ ظل العبارة حاضرًا. ترك لقلمه حرية السرد دون توجيه أو تجميل فجاء في بعض المواضع صادمًا. دون مواربة، قدم صورة متناقضة لوالده؛ (بخيل ومرواغ ومحب للتسلية)، استعرض تاريخ أسرته وما مرت به من قضايا مشينة صنعت أبًا غريب الأطوار يفضل الوحدة والعيش في عزلة رغم اختلاطه بالمجتمع.
تتيح كتب السير الذاتية استكشاف جوانب خفية ساعدت في تشكيل الشخصيات وصياغة الأفكار. شكلت الأساطير والخرافات التى رواها والدا نيلسون مانديلا أفكاره بشأن الحرية والقوة ليتحول إلى بطل قومي يقود تحرير وطنه حتى بعد اعتقاله لمدة بلغت سبع وعشرين عامًا، ظل الرمز الدائم للحرية.
أيضًا، صنعت الأساطير من الدكتور طه حسين عميدًا للأدب العربى، ومن جابريل جارثيا ماركيز عميدًا للأدب الإسباني وحائزًا لجائزة نوبل في الآداب. كتب العميد روايته الأيام في اسبوع، حكي عن عوالم طفولته والعفاريت التى تطوف بالنائمين فتعبث بهم، أو تتركه مؤرقًا خوفاً منها. كائنات أسطورية قدمت تفسيرًا لخوارق عجزت عقول البسطاء عن فهمها، أكملت العفاريت والجن ما نقص من علم، ملأت الفراغ غير القابل للاستيعاب.
في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، كان ماركيز يصيغ عالمًا آخر من نسيج الأساطير أيضًا في كولومبيا، أخبرته زوجته، (صاحب المنزل بالباب يسأل عن الإيجار، ماذا أقول له؟)، فأجاب دون أن يرفع عينيه عن الأوراق، (اطلبي منه الانتظار أربعة شهور إضافية!)، فطلبت ستة أشهر ووافق المالك، انتهي خلالها من روايته (مائة عام من العزلة)، حققت الرواية شهرة ودرت عليه دخلاً كفل له سداد الإيجار المتأخر. كانت لديه قدرة فائقة على استحضار أساطير جدته وجده ليصبح حكاء السحرية العجائبية الأول.
في روايته القصيرة (ليس لدي الكولونيل من يكاتبه)، يعرض ماركيز لشخصية تعكس الصبر والأمل والتمسك بالمبادئ في مجتمع متفسخ بدا معها الكولونيل غريبًا عن مجتمعه الذى يعيش فيه، منذ تقاعده من أكثر من خمسة عشر عاماً وهو ينتظر خطاب المعاش. لم يعد يشغله سوى مواعيد مصارعة الديكة وتربية ديك ابنه أوجستين، الذى قتلته الشرطة أثناء توزيعه منشورات سرية مناهضة للحكم، وخلال ذلك يبيع قطع أثاث البيت لتدبير نفقاته اليومية هو وزوجته، ويذهب كل جمعة إلى الميناء، ينتظر البريد القادم مع السفينة، وعندما يخبره رجل البريد بأن لا رسائل له، يجيبه دون مبالاة، (لم أكن انتظر شيئاً .. ليس لدى من يكاتبني).
بدا الكولونيل غريبًا على مجتمعه، غربة تختلف عما رواه أوستر عن والده، عاش الكولونيل في شرنقته الخاصة ينتظر ما يحلم به، وكلما عاد مخذولاً عصر كل جمعة وعد نفسه أن الجمعة القادمة ستكون الأخيرة ويتحقق حلمه. فيما عاش والد أوستر غريبًا على بيئته أجمع، أسرته، جيرانه، عمله. يهرب الإنسان مما حوله عندما يصعب عليه الاندماج في بيئته، يكتفي بمتابعة ما حوله بعينيه دون تفاعل، تزداد كثافة شرنقة الوحدة كل صباح وتحت أسر التعود لا ينتبه إليها. يقول الكاتب الإنجليزي صامويل بيكيت (العادة مخدر عظيم)، يقع الشخص في أسر عادة فإذا هو غريب عما حوله، وجه آخر للحقيقة الصادمة كما يقول هيراقليطس.